خضر سلامة
كتبت هذه الخاطرة، بعيد وفاة “الحجة آمنة”، والدة جدي، خزان أسرار صلات الرحم والدم في الأسرة الكبيرة، وجذري الضارب في خد تراب الجنوب.
من قال أريدكِ في الجنة.. أريدكِ هنا الآن..
قاسميني رغيف الشوق الى الجنوب… قاسميني موهبة البكاء ..
"الختيار بالبيت بركة".. فكيف تُدفَن البَركة! ومن أين أشحذ الآن ذاكرة العائلة وتاريخها.. وأنت بعكازك تصفعين غربتي.. وتسميني غريباً.. وحيداً.. وحزيناً.. من أين أشحذ بهجة العودة اذا ما عدت يوماً.. وأضعت الدرب إلى زرقة عينيك.
أتهمك بالغرور، بالأنانية، أدينك بموتك والخيانة، أصرخ فيكي أن عودي: فكيف تصادرين الآن منّي أسماء الموتى ورائحة التراب، كيف تسرقين العناوين والقصص والأدعية وترحلين.. ولماذا تغلقين باب القبر على أصابع طفلٍ لا زال يرضع من شفتيك أشيائه.. ألعابه.. لا زال يعلّق مرجوحة العيد فوق كتفيك منتظراً ضحكتك العجوز على قارعة الوجه المثقل بالموت.. بحرارة الفقد.
كل ما في المشهد يشبه الحزن المنقوش بصدري.. فبساط الثلج يخنقني بلون الكفن الذي ألبسك إياه الميلاد .. وصقيع المدينة فيه رعشة صوت أمي القادم من الهاتف لينعيك.. ليرثيك بآيتين من القرآن ودمعتين.. وصلاةٍ يابسةٍ كالفجيعة.
لكِ الأبجدية إن علمك اللحد الآن القراءة.. فأجيبي.
من يقلب خد الحقل إن سلمتك للنسيان.. لموتك
من يلقن الأطفال اول خطوةٍ فوق التراب… إن رحلتِ أنتِ وكفّك
من يخبأ اللهجة الجنوبية إن نشلوا من معطفي شفتيك وصوتك
ركيكة هي اللغة في رثائك، وخائنٌ أنا إن وقفت حاملاً ذبولي أمام ورد صدرك، فكيف أبتكر البداية، ورحيلك آخر النهايات الممكنة لملاحم الصبر والكبرياء… أخجل من صخب الأعياد أمام خنجر السؤال عنكِ.. أخجل من نفسي أمام عتب المسافة والسفر…
يا حجة آمنة:
أحتاج معجزة..
أحتاج الهاً.. نبياً.. قرآناً جديداً
أحتاج قصيدة..
أحتاج كتفاً..
أحتاج وطناً آخر يقبل أن أقبّل يديه اذا ما عدت الى وطني..
الآن أعرف ما ثقل الفراغ، أعرف ما شكل الجسد بلا قلب، وما شكل الشعر بلا وزن، وما شكل الصوت بلا بصمة، الآن أكتشف لون وجهي العاري حين يولد المطر فيه ويدفن فيه.. ويُبعث منه كل شيءٍ حياً وحزيناً فيه..
هذا انكساري أيقونةً في عنقك.. وتلك دموعي نبضاً يطرق باب القلب الغافي.. وتورّم عينيّ حذاءً لقدميك.. فهاتي عكازك الآن أتوكأ بها على الألم… وأعيريني شيباً من شعرك.. أزرعه في مقلتيّ بياضاً كبياض عينيّ يعقوب.. واشنقيني بالضفائر… علقيني في يديك مسيحاً.. واعتنقي القيامة.
لا تجرحي قلب الصليب مرتين.. واعتنقي القيامة.
"قومي من حزنك قومي.."
أبعد هذا.. ترحلين؟..